الآن اكتب لكم هذه السطور الأخيره من مكاني هذا
لا ادري ان كان احدهم سيجد هذه الأوراق التي اخطها الآن أم لا , لكننا سنكون قد متنا علي أي حال
الظلام يعم المكان حولي إلا من لهب شمعه صغيره تبعث الضوء الواهن فوق السقف الخشبي المتآكل , فقدت الشعور بقدمي النازفه منذ زمن و لم يعد مشهد الدماء التي تغطي الأرض يثير ذعري الآن , لكنني أتألم كلما سمعت صوت هنري جواري .


يحتضر .. اجل انا اعلم انه يحتضر و ليس بوسعي مساعدته , أستطيع أن أسمع انفاسه الأخيره هنا و استطيع أن التقط رائحه اللحم المحترق لكنني رغم كل ما رأيت مازلت لا استطيع النظر له .


نحن هنا منذ يومان علي ما اعتقد , يصعب متابعه الوقت حقاً بالظلام , كيف اصيبت قدمي ؟ .. لم اعد اتذكر سوي الصرخات و الأنفاس الكريهه تجثم فوق رؤوسنا .. بصعوبه استطعنا الهرب انا و هنري و بصعوبه اكبر وصلنا الي هذا المنزل الخشبي الصغير بأحد الحقول و التي ظننت ان ما حدث لم يصلها بعد .


الرائحه الحمضيه تفعم أنفي الأن و هذا يعني ان هنري قد بدأ يتحلل , لا أنا لا ابالغ هذا هو ما يحدث حرفياً جواري في هذه اللحظات .

لاحت مني نظره صغيره نحو النافذه المسدوده بألواح من الخشب , لم استطع رؤيه ضوء النهار , لم اتمكن من رؤيه أي شئ بإستثناء الخربشات المحفوره فوق الالواح , ربما كانت محاوله للهرب أو محاوله للإستنجاد , لكنها بكلا الحالتين لم تجدي .

فها هما الزوجان كبيرا السن يرقدان أرضاً جوار الفراش المبعثر خلفي , ربما لو قلت – بقايا الزوجان – لكنت أدق ,
لكن التفاصيل الصغيره لا تهم أحداً سواي في الواقع و انا لم اعد اهتم .


هيا هنري لِم لم تمت بعد ؟ , احتاج لبعض الهدوء حتي اتمكن من التركيز .. سينتهي سن القلم بيدي قريبا و سينتهي الضوء الباقي بالشمعه لأقضي دقائقي الباقيه بالظلام لكنني احتاج إلي تدوين ما حدث , احتاج للبقاء بوعيي قليلاً بعد .


انفاس هنري بدأت بالتلاشي لكنني بدأت اشعر بالألم الحارق يعتصر ذراعي الأيسر , لم يتبق الكثير من الوقت , إذن فلأتوقف عن التفكير و لأكتب فقط لربما يسعفني الوقت.



" يا فتاح يا عليم .. يا رزاق يا كريم "
هكذا كانت صيحتي الإعتراضيه أول النهار قبل أن اجد من يسحبني كمن يسحب جوال من الأرز إلي مكتب المدير .
مازالت الساعه التاسعه صباحاً , هنا و هناك تجد الإخوه الزملاء بالإستوديو بعضهم يفرك عينه ليزيل النعاس عنها , و البعض الأخر يختلس " حبه نوم " علي مكتبه قبل أن يأتي المدير ليخرب بيته .
عم عبده الرجل الأسطوره - الذي لا يعلم أحد ما وظيفته بالأستوديو بالضبط – يمر جواري ليقول بصوته العميق 
     " صباح الخير يا مصطفي . "

كدت أن أرد لكن السيد الفاضل الذي كان يجرني جراً القي بي أمام باب المكتب  :
" المدير عايزك "

قالها بقرف ارستقراطي جدير بالأباطره , فقلت و انا احاول التعديل من مظهري :
" ليه ؟ "

تجدعت ملامحه بضيق و لم يجبني بل سار مبتعداً , بالتأكيد لينغص علي أحد اخر حياته .. زفرت بإستسلام و رسمت ابتسامه متكلفه علي وجهي و طرقت الباب بهدوء لأدلف الي الداخل .

علي المكتب الأسطوري جلس السيد المحترم / ناصف السيد . مدير المحطه ,  بشاربه المشعث و نظرته الثاقبه و امامه يجلس الاستاذ / هادي عبد السلام . رئيسي المبجل ينظر لي في غل و كأنني قتلت زوج خالته .

" تعال يا مصطفي .. "
قالها المدير فتحركت مغلوباً علي أمري لأجلس أمام الاستاذ هادي و انا اقرأ الشهادتين في سري .

تسألون لماذا هذا الرعب ؟ , ربما لأن السيد ناصف لا يطلبنا إلا ليزيل احدنا من الوجود .. ذات مره أرسل في طلب زميل لي و لم أره من يومها , هناك اسطوره تقول أنه القاه من النافذه المفتوحه جواره .. بالطبع أري انها أسطوره مبالغ بها بعض الشئ , لكن لدي كم مخزون من مشاهد الرعب بالأفلام الأجنبيه و كم هائل من الأفكار السوداء و التي يتضمن أفضلها قضم حنجرتي .

المهم انني بدأت اتصبب عرقا منتظراً نهايتي عندما قطع علي أ / ناصف افكاري قائلا بهدوء :
" بص يا مصطفي , إحنا عندنا ليك مهمه . "

" هاه ؟ "
قلتها ببلاهه تامه

" مهمه يا بني أدم .. مهمه .. بص يابني , الأستاذ هادي اشتكالي منك و قدامك فرصه اخيره تعوض اللي عملته ده "
نظرت لهادي في ذعر و لسان حالي يقول " انا عملت ايه بس يا جدعان !! " , لكن و علي ثغره المح إبتسامه متشفيه فتمالكت أعصابي و انا اقول :
     " اللي حضرتك عاوزه .. أؤمرني "

إبتسم أ / ناصف و هو يعقد يداه معاً و بدأ بالحديث :
" بص بقي يا مصطفي .. احنا عاملين برنامج جديد بيتكلم عن مشاكل الشباب و حياتهم , بس إحنا للأسف ملقيناش أي حد نستضيفه في البرنامج , فأنا قلت للاستاذ هادي انه كمخرج هيتولي موضوع البرنامج ده بس محتاجين مذيع كويس يستضيف الشباب .. ايه رأيك يا مصطفي ؟ "

بالطبع السؤال الأخير لم يكن يطلب رأيي بل كان تهديد بشكل مهذب لذا قلت :
    " اللي تشوفه حضرتك "

إبتسم المدير قائلا :
" كويس أوي .. حيث كده بقي مهمتك هتكون إنك تلاقي مجموعه من الشباب و تعمل معاهم فيلم وثائقي , و قدامك أسبوعين تكون مخلص البرنامج "

" اسبوعين !!! "
قلتها بذعر و انا انظر نحوه متابعاً :
" بس يا فندم .... "

" إسبوعين يا مصطفي "
قالها بلهجه ختاميه , نظرت لهادي لأجده يبتسم إبتسامه جانبيه صفراء , فنهضت لأخرج من المكتب دون أن أنظر خلفي و انا اختبر شعور من قفز من مترو الأنفاق , لم أنظر حولي إلي أن وصلت – ولا اعلم كيف – إلي مكتبي المتواضع .

القيت بنفسي فوق الكرسي الجلدي و انا انظر للاشئ تقريباً , لقد انتهت حياتي .. انتهي عملي , إستحضر صوره أمي أمامي و انا اخبرها بالخبر السعيد , أري ملامح وجهها و هي تقول " جتك خيبه .. هتفضل طول عمرك فاشل " . لِم كانت الحياه قاسيه بهذا الشكل ؟؟ .
" صباح الخير يا درش .. "

جائني الصوت المبتهج من جوار الباب فحركت رأسي ببطء لأنظر نحو القادم , إسلام !! .
زميلي المتدرب الجديد , الصغير , عديم الخبره .. ال ... ال .....
وببطء إتسعت إبتسامتي شئ فشئ .

إبتسم إسلام من جديد و علي وجهه تبدو براءه جديره بالإستغلال :
" إزيك يا مصطفي .. انا قلت اعدي لتكون محتاج حاجه ... ايه يابني مالك , إيه ده في ايه بتبصلي كده ليه ؟ , انت عيان يا مصطفي ؟ , مصطفي !!! . "

***************

في خلال الثلاث أيام التاليه رأيت – ومعي إسلام بالطبع – أسود أيام حياتنا بلا مبالغه
ملايين من الأوراق تكدست لتكون ملفات , ملايين من الملفات تتعالي لتكون جبال من المعلومات
أكواب من الشاي و علب من الفول – لأننا لا نملك ترف طلب الطعام الجاهز – تكومت بكل مكان
هالات سوداء تكاثفت اسفل عيني بينما أصبح إسلام بائساً منكوش الشعر كمن خرج من أتوبيس مزدحم لتوه .
" 80 مليون مصري و مش لاقيين خمسه سته نعمل معاهم البرنامج !! "
قلتها و انا تقريباً أوشك علي الانفجار .

" ................ "


" إسلام , انت لسه عايش ولا ايه ؟ "


" ....................... "


" إسلام !! . "
نهضت مسرعا فقط لأنزلق فوق كومه من الأوراق مباشره فوق بقايا الفول , عدت انهض مطلقاً سباب مبهم لأتجه نحو الشاب الجالس القرفصاء ممسك بورقه مجعده يحدق نحوها و علي فمه ابتسامه مريعه , حتي شككت أنه قد وجد سر صنع القنبله النوويه الجديده .

" مالك يا اسلام ؟ " . قلتها بشك .

رفع عيناه ببطء نحوي و هو مازال مبتسماً : " وجدتها " .

" هي مين . ؟ " قلتها ببلاهه .
سلمني الورقه لأفردها بين يداي و أبدأ القراءه , فقط لتتسع إبتسامتي شئ فشئ .....


_* الفصل الأول * _
(( حادِث لَم يدون ))

تصاعد صوت قطرات المطر الصغيرة المتضاربة فوق الزجاج البارد مخترقه صمت الحجرة المظلمة إلا من خيط ضعيف من الضوء يرسله القمر ليسبح بهدوء فوق الجسد النائم دون حراك
علا صوت ضربات الماء الصافي فوق الزجاج أكثر قليلا فتحرك النائم ليصبح علي جانبه الأيمن في مواجهه النافذة الزجاجية المغلقة .
تفتحت عيناه الداكنتان ببطء في مواجهه الضوء المتسلل علي استحياء , حدق نحو المشهد الضبابي خارج النافذة من مكانه . لم يكن يري القمر لكن بقعه ضوء واضحة بالسماء فوق النافذة تماما أشارت إلي وجوده رغم الغيوم و الأمطار المتتابعة .
استدار بهدوء ليعتدل جالساً , حرك يده اليسري فوق كتفه الأيمن ضاغطاً عليه ليزيل الشعور بالتيبس منه ثم أنزل قدميه الحافيتان إلي الأرض الخشبية الباردة و تحرك نحو النافذة .
اتسعت دائرة الضوء الزرقاء الشفافة لتغمره بالكامل عندما وقف أمام الزجاج مباشره و عيناه تبحثان ببطء عن القرص البلوري بالسماء
لكم هو نقي , شفاف , بشكل ما كان يمتلك ذاك الشعور بأن القمر لا ينتمي إلي هذا العالم
رافعاً الإطار الخشبي تناثرت قطرات المطر إلي داخل الحجرة لتضرب الأرض المظلمة و جسده الدافئ .
هل مر كل هذا الوقت بالفعل ؟ .. منذ متي وأنا هنا ؟ , لَم يعد يذكر . بدا له أنه نزيل هذه الحجرة و هذه المدينة منذ الأبد , فجوه ضبابية صغيره فقط بعقله هي ما يذكره بماضيه , تلاشي كل شئ فلم تبقي سوي هذه الفجوة
تلاعبت الأشعة الفضية بعيناه لتصنع ذاك المزيج الكريستالي المتوهج بينما هو لا يزال في شروده .
لَم يكن يري المشهد أمامه تماماً , فقط عملت السماء السوداء و الشارع الفارغ الممتد نحو الأسفل كمرآه تعكس خواطره الخاصة .. البرج الحجري الضخم و الغابات المتشابكة من بعيد مٌطلة علي بحيرة صافيه ضخمه ., يبدو كل شئ كقطعه من حلم ينتمي لشخص أخر .
= لو كنت طبيعياً لكنت تركت الأمر بكاملة يدور مع عجله الزمن , لكنت تناسيت ما حدث و بدأت حياه هنا
=  لكنك لست طبيعيا عزيزي أرمان
= إلي متي ؟
= إلي أن تعود .
= هل سأعود حقاً ؟
تراءت له النسمات الباردة فوق الممر البلوري وسط البحيرة و الضحكات بالحجرات
أغمض عينيه في مواجهه خواطره
= العودة أو الموت .. لا خيار ثالث هنا يا صاحبي .
أطلق تنهيده غابت بين الرياح و حرك يده مجدداً ليغلق إطار النافذة .

********
= اوتوس
أضاءت حجره المعيشة الصغيرة عندما انزلق كف يده مفتوحاً بضوء أبيض خافت

" مرحباً ... اممم .. أرمان , انه أنا .. لقد أحضرت لك الأوراق .. حسناً , اتصل بي "

" نسيت أن تعيد الكتب , غداً هو الموعد الأخير ... نرجو إعادتها مستر أرمان "

" ليس لديك رسائل أخري "

صدرت الصافره الصغيرة عن جهاز الرد الآلي فوق المنضدة قبل أن يصمت تماماً .
غلف الصمت الحجرة للحظات و إن بدأ عقله ينبض بقوه
ما الذي حدث , هل أمسكوه ؟
تحرك أرمان فوق المقعد الوثير بقلق وهو ينظر نحو جهاز الهاتف بخيبة أمل ثم نهض ليدور بالحجرة .. المكالمة لَم تأت بعد , هناك شئ ما خطأ .
توجه نحو النافذة دون وعي ليحدق بالشارع . غداً ربما!؟ . لكن كل يوم يقنع نفسه أنه سيتصل غدا
متي سيأتي هذا الغد ؟ . تلاعبت الخواطر أكثر بعقله لكنه استطاع بشكل ما إبعادها مؤقتاً عن تفكيره كان علي وشك أن يعود للداخل عندما تحركت عيناه تلقائياً نحو أحد أعمده الإنارة بالشارع حيث يقف شخص ما بمعطفه الأحمر الداكن مستندا إلي عامود الإنارة بالأسفل و عيناه نحو الأعلى , ضيق أرمان عيناه للحظات ناظراً نحو نفس المكان بثبات .
لا شك في هذا , الرجل بالأسفل يحدق نحو غرفته بثبات ودون أن يحرك إصبعاً واحداً
منذ متي وهو هنا ؟

= آنيكوس .

قالها هامساً وهو يغلق قبضته ليزول الضوء من الحجرة مجدداً وتعود غارقة في الظلام .
الرجل مازال واقفاً دون حراك يبادله النظر , ظل أرمان بموضعه مستعداً للأسوأ .
لكن دقائق اخري مرت في هدوء ثم استدار الرجل و مشي مبتعداً .
لحظات أخري و غاب الرجل بنهاية الشارع ليعود أرمان للداخل ليستلقي فوق الأريكة و ذراعه اليمني فوق جبهته .
هناك من يراقبني إذن . كان ينتظر هذا و إن لَم يك متأكد تماماً انه سيحدث
رغماً عنه ابتسم وهو يتخيل كيف سيكون الوضع لو قرر أحدهم مواجهته .
لكنه عاد للعبوس مجدداً , كيف وجدوني ؟ , عاد مظهر الرجل من بعيد يسطع أمام عينه , هل هي محظ صدفه أن قابلته بنظري لذا بقي ينظر نحوي , لكن لا .. لا شك أنه كان يراقب منذ البداية , ربما حتى قبل أن أتحرك لأقف أمام النافذة .
قطع حبل أفكاره طرقات فوق الباب الأمامي للشقة .
أنزل يده من فوق جبهته ناظراً بتوجس نحو الساعة علي الحائط أمامه , الواحدة بعد منتصف الليل
توقفت الطرقات لذا نهض جالساً فقط و لَم يغادر مكانه .
عادت الطرقات من جديد لكنها اقوي قليلا هذه المرة لذا تحرك بتؤدة عبر الحجرة شبه المظلمة ملتقطاً سكين صغير ملقي بإهمال من فوق المنضدة و اتجه نحو الباب .
صمت الطرق ثم عاد فسأل بصوت حاد :
= من ؟ .
= إنه أنا كريس .
أغمض أرمان عيناه بنفاذ صبر ثم أزاح الرتاج جانباً , فتح الباب و استدار عائداً نحو الداخل ليلقي بالسكين فوق المنضدة مجددا و يعود ليجلس فوق الأريكة الدافئة .
عبر كريس الباب المفتوح ثم أغلقه و أعاد الرتاج إلي مكانه قبل أن يخلع معطفه السميك
= لمسه جيده .
قالها وهو ينظر نحو القفل الفضي فوق الباب ثم تابع وهو يتقدم نحو الداخل :
= و عرفت أنه أنا بالفعل ؟ .
اختار مقعدا للجلوس ثم أشار نحو القفل وهو يكمل مازحاً :
= لن يفيدك كثيراً إذا ما فتحت لكل من يطلب الدخول دون التأكد من هويته .

دون أن يبتسم أجاب أرمان :
= لن يفيدني بحال . اشتريته لأنني اشتريته . هذا هو كل شئ .
ثم تابع بجديه :
= ما الذي أتي بك ؟

تراجع كريس ليسترخي أكثر في جلسته :
= نعم , مرحباً بِك كريس , أوه اهلاً أرمان ... كيف حالك , بخير شكراً لسؤالك .

أعاد أرمان تكرار السؤال مجدداً :
= ما الذي أتي بك ؟

بهدوء أكمل كريس و كأنه لَم يستمع :
= الجو فظيع بالخارج , حقاً .. لكن علي الفرد منا الخروج لتحريك قدميه , صحيح .

جاراه أرمان قائلاً وهو يحرك يده نحو السكين الملقي ليلتقطه عابثا به :
= في هذا الوقت ؟ .

ابتسم كريس بخبث ثم قال :
= حسناً , لم أكن بالخارج لتحريك قدماي .

ابتسم أرمان بدوره قائلاً :
= جيد , إءتني بالأسوأ .

تابع كريس وهو يحرك يده بحركة مسرحيه :
= كنت بالخارج كما قلت سابقاً , ثم فكرت بما أنني قد غرقت بالماء و الطين بالفعل , لم لا أفعل شئ مفيد إذن و أذهب لزيارة صديق قديم .
لم يعلق أرمان لذا تابع :
= ماراً بالجوار عندما رأيت شئ جميلا , قلت لنفسي سيحب أرمان الاحتفاظ بهذه , لذا ..
وضع يده بجيب قميصه الرمادي ليخرج القلادة الكهرمانية المزخرفة و يضعها فوق الطاولة أمام عينا أرمان .
علي الفور توقفت السكين الصغيرة عن الحركة بيد الأخير و تركزت عيناه باهتمام فوق المنضدة
بصوت شبه هامس قال :
= هذه ؟ .
ابتسم كريس وهو يومئ :
= هي بعينها .
نظر نحوه أرمان ثم وضع السكين فوق المنضدة ليلتقط القلادة و يقلبها بين يديه
نظر بذهول إلي الجوهرة الكهرمانية المحاطة بالإطار الذهبي اللامع ثم قلبها إلي الخلف
الخطوط السوداء المحفورة مشكله حرفي اللام و الهاء .
أعاد النظر نحو كريس :
= هذه ليست تقليد متقن .

= لا ليست تقليد .
قالها بنبره جديه و قد بدأ يشعر بالرضا لحيازته علي اهتمام أرمان

= أنت لم تجدها , لا يمكن أن تكون مجرد ... وجدتها .

= حسناً , لم أجدها .

تحولت تعبيرات أرمان إلي مزيج من القلق و الغضب وقال بصوت حاد و إن جاء منخفضاً :
= هل يمكنك أن تتفوه بشئ واحد صادق الليلة ؟

نظر كريس نحوه دون أن يتحدث و إن بدا مستاء فأكمل أرمان كلماته بذات النبرة الحادة :
= ما الذي فعلته , كريس ؟

= ولِم تظن أنني قد فعلت شئ ؟

قبض أرمان علي القلادة الصغيرة بين أصابعه بقوه و قال :
= لأنه لا يمكنك ببساطه الحصول علي هذه .. هذا هو السبب .
زفر ثم تابع :
= من أين حصلت عليها ؟

= المجلس .
قالها كريس بلهجة مبهمة وهو يبعد عينه عن صديقه لتجول خلف كتف أرمان بشئ من التوتر

= المجلس ؟
قالها أرمان دون أن تخف قبضته و إن علت نبرته قليلاً

= نعم المجلس .
قالها كريس ثم أعاد النظر نحو أرمان الذي ضاقت عيناه فتابع بسرعة :
= اسمع , كنت مضطراً .. لقد رأيته و ...

           قاطعه أرمان صائحاً وهو يرجع بظهره ليصدمه بالأريكة واضعاً يده فوق جبهته بقوه :
= اللعنه كريس .

نهض ليتحرك بالحجرة علي غير هدي و القلادة ما تزال بيده , نظر كريس نحوه ثم قال :
= كان علي فعل هذا .
لم يجبه أرمان فتابع وهو يحرك يده وقد علت نبرته :
= كان سيقتلك .

= لا لَم يكن ليقتلني , لَم يكن حتى متأكد أنه أنا .

عاد للجلوس وهو يرطم يده بالمنضدة صافعاً القلادة فوقها :
= الآن المجلس بالكامل يعلم أنه أنا , و يعرف مكاني .. اللعنه كريس قلت لَك ألا تتصرف دون أن تعلمني .

تتابعت أنفاسه محاولاً امتصاص غضبه
بقيت نظرات كريس موجهه نحوه دون تعبير للحظات ثم التقط القلادة و نظر نحوها متمتماً :
= المجلس مفوض بقتلك كما تعلم .. جميع فئات المجلس .
وشدد علي نطق الكلمات الثلاث الأخيرة .

مرت دقيقه أو أكثر من الصمت ثم أتي صوت أرمان من خلف يده الشاحبة :
= إنها ذهبيه .

= عفواً ؟ .
قالها كريس وهو ينظر نحو أرمان دون فهم فأجابه الأخير :
= الإطار المحيط بالقلادة ذهبي اللون , صاحبها من الفئة الثالثة.

= و ؟.

= لا يستطيع أفراد الفئة الثالثة قتلي , ليس ليلاً علي الأقل
قالها أرمان وهو يتحرك عبر الغرفة نحو حجره النوم بالداخل , فصاح كريس خلفه :
= مازلت لا أفهم .
أتي من الداخل بعض الأصوات لأشياء ما تسقط أرضاً ثم هدأ الصوت و عاد أرمان للظهور وهو يمسك بستره سوداء واضعاً شئ ما بجيبه :
= سأشرح لك في الطريق , هيا .

نهض كريس واقفاً وتحرك بدهشة عبر الحجرة :
= إلي أين ؟.

ناوله أرمان معطفه و تحرك دون كلام ليعيد فتح الباب سامحاً لصديقه المندهش بالخروج ثم خرج خلفه وهو يحرك الباب ليغلقه بقوه .

= لن تغلق القفل ؟.

= لا داعي .
قالها أرمان بصوت حيادي فنظر نحوه كريس بتعجب ثم كرر التغاضي عن السؤال و استدار لينطلق نحو السلالم المعتمة إلي الأسفل , نظر أرمان نظره صغيره نحو الباب ثم همس وهو يشير نحوه بإصبع واحد في حركه غير ملحوظة :
= سينتارو أوكتا .
لمع الباب لحظياً ثم عاد لمظهره السابق فاستدار أرمان ليتبع كريس عبر السلالم التي غطتها الظلال إلا من سراب ضعيف من الأشعة يرسله مصباح السقف الواهن
نحو الظلام و المطر بالخارج .




أنا اسمع ,
بالفعل أستطيع سماع الكثير ,
المارة بالأسفل , الضوضاء القادمة من الشقة بالدور العلوي , أبواق السيارات و ضوضاء النهار تلك , أستطيع سماع خطوات القلم بيدي فوق الأوراق لكن هذه ليست مشكله بالطبع
كل كائن ذي أذنين يستطيع القيام بهذا العمل
لكنني كذلك أري ,
المكتبة السوداء أمامي و السجاد الأنيق يغطي الارضيه
أري المنضدة الخشبية و أري أطراف ذراعي , أري الساعة فوق الحائط ذي اللون الغريب هذا و الذي لا أعرف ماهو بالطبع لكنه يعجبني , و أري الأشعة الدافئة للشمس تتخلل الحجرة عبر الستائر البيضاء خلفي .
كذلك يمكنني و بوضوح رؤية عيناك تضيقان بينما تقرأ هذه السطور لتقول باستخفاف
" هل هو مجنون هذا الرجل ! "
لكنها ليست مشكله _ لا يعني هذا أنني لا اهتم  _ لكنها ليست المشكلة
المشكلة في الواقع هي
أنني مت محترقاً منذ عامين .

******

عندما عبر جورج الممر المظلم متجهاً نحو الحمام كنت أنا جالساً بالحجرة المجاورة علي أحد المقاعد الدافئة و قدماي فوق المنضدة أمامي أحدق بالشاشة المظلمة للتلفزيون الكبير فوق المكتب , و جورج كما تعلم هو مغناطيس الكوارث البشري الذي يرافقني في السكن , أو لو أردنا دقه اكبر لقلنا الذي أسكن لديه .
أري بعضكم يتساءل لماذا أنا جالس هنا ؟ , حسناً ما الذي أستطيع فعله سوي هذا
الموت يقلل اختياراتك كما تعلم , بالإضافة إلي أنني قد قضيت اليومان الماضيان بالكامل – منذ أن استيقظت لأجد نفسي هنا – و أنا أفكر في السبب الحقيقي لعودتي

لست شبح باحث عن الانتقام أو أنا احد الأشباح العابثة التي تظهر فجأة لتقلب البيت رأساً علي عقب و تعبث بالكهرباء لتثير ذعرك , أستطيع فعل ذلك بالطبع لكنني لست من هذا النوع , أعطني سبب واحد فقط لأفعلها و عندها سأفعلها , أنا أعدك .
كل ما أعرفه أنني استيقظت يوماً شاعراً بأن الهواء قد أصبح ثقيلاً حولي , النيران المتأججة تلتهم كل شئ و لم احصل علي وقت كافي للتفكير حتى , تابوت خشبي مطلي حديثاً , كلمات عزاء و بعض الدموع من أصدقائي وانتهي الأمر بالكامل , حتى سجلات الشرطة اعتبرت موتي كملف مغلق , حادث مؤسف لكنه لا يستحق إهدار الوقت , 

" الرجل ترك الموقد و الغاز تدفق , شراره أشعلت الغاز , احترق و احترقت الشقة  "

هكذا كما تري معي انتهي كل شئ بسلام فقط لأستيقظ بعد عامين هنا داخل هذه الشقة بمجمع سكني أخر بمدينه أخري دون أدني سبب لوجودي .
المهم أنني بقيت هنا كما أنا أرهق نفسي بالتفكير و أنتظر صوت أقدام جورج العائدة من الحمام لحجره النوم
عندما دوت الصرخة الصغيرة من خلف باب الحمام الخشبي
و لأنني تحولت مؤخراً إلي الملاك الحارس لهذا الرجل فقد هرعت نحو الحمام لأري ما الذي يحدث
عبر الباب الأبيض و داخل الحمام الرخامي الأنيق رأيت التالي

أي طفل في الخامسة من العمر يعرف أن قابس كهرباء + ماء و أقدام حافية يساوي كارثة حتمية
لكن جورج كما يبدو لم يتعلم هذه القاعدة لأن يده الشاحبة المبتلة كانت تمتد ممسكه بقابس الكهرباء في حركه مرتجفة لَم تحتج إلي تفسير كبير
بحركة غريزية امتدت يدي نحو حامل المنشفة الخشبي جواره رغبه مني في إنقاذه
فقط لأتذكر الواقع المؤسف 

" أنت شبح يا عزيزي "

قالها لي انعكاسي الخائف في المرآة , ارتجف جورج أكثر .. ماذا أفعل ؟
عدت أركض عابراً الحائط لأقوم بقطع الكهرباء , لا أعرف كيف فعلتها لكنني فعلتها
 انزلق جورج فوق الأرض المبتلة ليفترش الأرض كلوح من الخشب و كل خليه بجسده تنتفض .
ظهرت بالمكان مجدداً عبر الجدار لأنظر إلي تفاصيل مسرح الحادث , الأرض الرخامية الزرقاء مبتلة تماماً وقد تناثرت بعض قطرات الماء فوق المرآة الصغيرة في مواجهه الباب بينما تيار من الماء البارد يندفع من الصنبور النحاسي أسفلها .
جورج من جهة أخري كان فوق الأرض و جواره المصباح المهشم و الذي حاول سابقاً إيصاله بالكهرباء , نظره صغيره نحو الرجل و أدركت أنه سيعيش
تحركت خارجاً من الحمام و أنا ألعن الغباء عندما سمعت الصوت الأنثوي القلق ينادي من حجرة النوم

" جورج ؟ . "

أكملت طريقي عائداً إلي موضعي السابق أمام الشاشة السوداء , هل قدمت إليك ريبيكا من قبل ؟ , إذن أسمح لي , ريبيكا سامرز مغناطيس الملل البشري و زوجه جورج , ليست جميله علي الإطلاق , طويلة قليلاً ذات شعر بني متناثر و عينان متسعتان و لا تسألني كيف أعجب جورج بها هو الرجل ذو البنية القوية , العينان الزرقاوتان و الملامح الجذابة  فهذا شأنه و ليس شأني .
جاء صوت ريبيكا ينادي مره أخري لكنه كان أقرب هذه المرة
 سمعت خطواتها تعبر الممر نحو الحمام
صرخة عالية عرفت من خلالها أنها وجدت جورج .
حان الوقت ليعتني به أحداً غيري , قلتها لنفسي وأنا استرخي أكثر و أعاود التفكير .

يتبع ......